عندها أدركت أن اصعب لحظات السقوط هي اللحظة الأولى بعدها تنخر سوسة التعود في ضمير الإنسان حتى يصبح الخطأ عادة لا يتحرك لها عصب ولا يهتز لها طرف ... أصبحت لقاءاتي مع أمين منظمة وبمواعيد متفق عليها .. لم اعدم حيلة تخرجني من المنزل في أي وقت أرغبه .. زيارة صديقة .. البحث عن عمل .. وامي المنهكة من العمل المتواصل والمتبلدة من الثقة الزائدة تعتبرني الملاك الذي لا يخطئ فأعطتني حرية لا حدود لها ..
تخرج أمين من الجامعة بتقدير جيد جداً أما نتيجتي فقد كانت متواضعة ولا تؤهلني لدخول كلية يعتد بها .. لذلك قررت البحث عن عمل حتى أساعد أمي في توفير لقمة العيش .. خصوصاً مع استسلام أمير الاختياري لعطالته الإجبارية.. وحاجتنا الماسة لزيادة مصدر دخل الأسرة ...حصلت على وظيفة مدرّسة في مدرسة ابتدائية مما أعطاني حرية اكبر في الخروج ومقابلة أمين ... اصبح تواصلنا الجسدي امراً مسلماً به في كل لقاء .. وبدا وعده بالزواج يتباعد مع تزايد اللقاءات .. ثم أتت مرحلة التهرب من لقائي إلا بعد إلحاح شديد مني .. وأنا الغبية اصدق تحججه بالعمل الجديد الذي حصل عليه في إحدى الشركات الكبيرة ... وفي يوم طلب هو لقائي فطرت إليه فرحاً وشوقاً .. فوجئت بوجود آخر معه .. عرفني به .. كان صديقه صاحب الشقة .. جلسنا معا قليلاً يلفنا الصمت والارتباك .. ثم اعتذر أمين بمواعيد مسبقة وخرج مسرعاً ... تركني مذهولة وأنا استمع لشرح صديقه عن ضرورة تفهّم الظروف .. وانه سيكون بديلا جيداً لامين .. أصبت بالشلل وأنا أحاول استيعاب ما يحدث .. لقد تنازل أمين عني لصديقه .. كانيي حقيبة أو حذاء .. ولم يكلف نفسه عناء الشرح أو الاعتذار .. ترك الأمر لمن ستؤول إليه الملكية الجديدة كي يجد الأعذار ويوضح الأسباب .. وفي لحظة الشلل الذي اعتراني كنت قد أصبحت جسداً مستباحاً للصديق المتلهف .. يبدو أن الحب في قلب أمين قد مات في اللحظة التي منحته فيها نفسي عربوناً ادلل به عن حبي له...
بعدها لم يعد لدي ما افقده .. ألم أخبركم أن لحظة السقوط الأولى هي الأصعب ؟؟ وبعدها تتساوى الأشياء ... امتهنت بيع جسدي لمن يدفع ثمنه .. لقد منحته مجاناً لامين .. وحان الوقت لاستفيد منه .. كانت حرفة سرية .. ومجزية .. وما اكثر الجائعين للحرام في بلدنا ...
أصبحت صورة مجسدة لدكتور جيكل ومستر هايد .. في الصباح انا المدرسة الرزينة الهادئة التي تعلّم الأطفال القراءة والكتابة ,, وتغرس فيهم الأدب والأخلاق ... يا لسخرية القدر .. كيف يقولون أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟؟ أنا افتقد لكل هذه القيم .. لكني اغرسها كل صباح في عقول تلاميذي الصغار ...
كانت حجة إعطائي دروس خصوصية للتلاميذ المقتدرين في منازلهم مقنعة أمام الجميع بما فيهم أمي وأخي لتغطية خروجي اليومي وعودتي المتأخرة احياناً .. استقل المواصلات العامة من الشارع أمام الجميع .. فتاة محترمة كادحة تساعد أمها بالعمل الإضافي .. ارتدي ملابس محتشمة واضع الطرحة على رأسي .. احتضن كتب ودفاتر .. نفس خائفة .. وروح ميتة.. انزل في مكان بعيد لا يعرفني فيه أحد ...وبنفس هيئتي اقف في اقرب رصيف بانتظار
الزبائن ... اختارهم حسب نوع السيارة وشكلها .. وعندما احدد هدفي القادم من بعيد أظل ساكنة شأني شان بقية المبعثرين على طول الشارع بانتظار وسيلة مواصلات ..
ظللت فترة طويلة أسال نفسي لماذا تتخطى السيارات بقية الناس وتأتي لتقف أمامي ؟؟ فأنا لا أبدو مختلفة عنهم ؟؟!! وفي يوم من الأيام تجرأت وسالت أحد زبائني الذي التقيته صدفة وبنفس الطريقة المعتادة .. عادل السوداني الذي يحمل جواز أمريكي .. في بداية الأربعين ترك زوجته الأمريكية هناك وأتى لقضاء إجازة وسط أهله بعد غياب دام خمسة عشر عاماً متواصلة قضاها في جمع الدولارات وتعلم فنون ممارسة الحب .. كان شبقاً وبداخله جوع غريب لا يشبع .. اعتاد حيل الغرب فارهقني .. وعندما اعتدت عليه أعطاني متعة لم أتخيل وجودها .. وكنت أحيانا أحس بالذنب لأنني أتقاضى أجرا مقابل ما يمنحني إياه ..الفرق بينه وبين الآخرين انه كان يتحدث .. نعم يتحدث معي كانسانة بغض النظر عن مهنتي التي أمارسها .. غالبية الرجال لا يكون تبادل الحديث من أولوياتهم بقدر تبادل اللمسات .. أما عادل ومنذ أول لقاء تكلم قبل أن يلمس .. وعندما أصّر على تكرار اللقاء لم أمانع لثلاثة أسباب .. سخاؤه .. حديثه .. وبراعته ... بعد اللقاء الثالث سألته ما السبب الذي دفعه لإيقاف سيارته لي أنا بالتحديد دوناً عن بقية الفتيات الأخريات ؟؟ كيف عرف من أكون ؟؟ أجابني بضحكة مجلجلة وصراحة مؤلمة " يا ابتسام ما تزعلي مني لكن انتوا بتتعرفوا بالإحساس .. عندكم جو معين بيحيط بيكم .. زي الكانوا جسمكم بيفرز ريحة خاصة إحنا بس البنقدر نلقطها .. نظراتكم بتكون مختلفة عن باقي البنات .. حتى طريقة وقفتكم .. سمعتي عن حاجة اسمها لغة الجسد ؟؟ اهو انتو بتملكوا اللغة دي .. انتو حتى لو الواحدة منكم لابسة خيمة مغطياها من رأسها لرجليها لكن ريحتها وكل حتة من جسمها بتقول أنا كدة .. تعالوا لي " وكان تفسيره مقنعاً ..
قبل عودته إلى أمريكا بيوم .. أصر على قضاء طيلة اليوم معي .. كانت حصيلتي في نهايته ثلاثمائة دولار ومشية غريبة عللتها للجميع بتعثري والتواء قدمي مما جعل المشي عصياً .. عندما هم بالمغادرة ذلك اليوم احتواني بين ذراعيه وطبع قبلة عميقة على شفتي وهمس في أذني " تعرفي يا ابتسام لو ما كنتي كدة انا كنت عرستك .. انتي اول بت سودانية تديني المتعة دي "
وهمست في أذنه بسخرية " وتعرف يا عادل أنا لو ما كنت كدة ما كنت قابلتني ..ولا عرفتني ولا اديتك أي إحساس "
السبت 7 أكتوبر .. الخامسة مساء ...
اليوم اجري استعدادات خاصة للخروج .. لدى أحد زبائني المتخمين بالمال حفل صغير مع ضيوف أجانب في منزله ويود أن يقدم لهم صورة مختلفة عن المرأة السودانية التي يسمعون عنها او يرونها في القنوات وهي ترتدي الريش والتمائم كأنها خرجت لتوها من إحدى الغابات .. أتت أمي الحبيبة وهي تحمل كوب الشاي بالحليب " بسمة اشربي شايك قبل ما تمرقي عشان رأسك ما يوجعك .. قلتي الليلة عندك طلبة كتار وحتتاخري " كان حنانها يمزقني .. وغفلتها تعذبني ...
" يا بسمة أمير أخوك قال محتاج مبلغ كدة .. طالع مع أصحابه يوم الخميس وما عاوز يمشي أيده فاضية " .. نظرت إلى أمي بطرف خفي .. تدليلها الزائد لشقيقي الأصغر كان عاملاً فعالاً في استمرار عطالته .. وتلبيتها لجميع طلباته خلقت منه انساناً انانياً لا مبالياً واعتماده على توّفر المال كلما احتاج له قتل داخله روح الطموح والرغبة في العمل ..
" حاضر يا أمي .. عاوز كم ؟؟ ردت أمي بخفوت " قال عاوز تلاتين الف " ورددت عليها بانزعاج " تلاتين الف عشان يطلع مع اصحابه ؟؟ ليه اصلهم ماشيين وين ؟؟ وازداد خفوت صوت أمي " والله يا بتي ما عارفة لكن هو قال محرج منهم كل مرة يدفعوا ليه .. والمرة دي هو عاوز يدفع .. أنا ما عاوزة اتقل عليك عارفاك شقيانة عشان تساعديني لكن انا والله ما عندي .. لو عندي ما كنت جيتك " وكي لا أرى النظرة المنكسرة في عينيها ولا نبرة الاستعطاف في صوتها أومأت موافقة " حاضر يا أمي قبل الخميس باديه القروش " لا يا بسمة انتي اديني ليها وانا باديها ليه باقي اخوك بيخجل يشيل منك انتي " وابتسمت وأنا أفكر... ما اجمل خجله ؟؟!!
الجمعة 13 أكتوبر ...
هل تؤمنون بالخرافات ؟؟ .. يقال انه لو صادف يوم الجمعة تاريخ الثالث عشر فهذا نذير شؤم .. فيما يخصني كان يوم الشؤم بالأمس .. واليوم مجرد استمرار له .. بالأمس خرجت عن ترتيب مسبق خلافاً لبقية الأيام التي اختار فيها زبائني بعشوائية ...أحد زبائن الأسبوع الماضي شاب في مقتبل العشرينات التقيته مرة أخرى أثناء وقفتي المعتادة واخبرني انه أتى خصيصاً للبحث عني .. يبدوا أن الدروس التي لقنني اياها عادل قد حسنت كثيراً من قدرتي في توفير المتعة والإشباع لهذه الأجساد الجائعة .. في نهاية اللقاء اخبرني برغبته في لقاء آخر يوم الخميس حيث يجتمع هو وأصدقاؤه في منزل أحدهم لاقامة حفل صغير بلا مناسبة محددة .. وسوف يجلب كل منهم فتاته .. وطلب أن أرافقه ...
كان منزلاً جميلاً في أحد الأحياء الراقية .. غياب الأسرة خارج البلاد في إجازة أعطى ابنهم الحرية في استقبال أصدقاؤه ... عندما دخلت دهشت من كمية النساء والفتيات الموجودات .. بعضهن يصغرن أمي بسنوات قليلة مع فارق نقوش الحناء ورائحة البخور الطاغية .. والضحكات الخليعة .. همس لي رفيقي بان بعض أصدقاءهم يفضلون النساء كبيرات السن لأنهن يمتلكن الخبرة وأشياء أخرى لا نملكهما نحن الصغيرات غير المتزوجات .. وعلى النقيض كانت هناك فتيات تخطين مرحلة الطفولة بقليل ..
بعد الأكل والشراب وفواصل من الرقص بكل اللغات .. تهاوت الأجساد وأوى كل إلى مكان يتيح له فعل ما يريد .. كان العدد كبيراً لذلك توزع البعض في أركان الصالة الفسيحة على الكنبات وفي الأرض .. كل في عالمه ولا يعي بما يدور حوله ... انعدم الحياء وانهارت الحواجز .. كنت في طرف قصي من الصالة أحاول أن أجد وضعاً مريحاً في الكرسي المنخفض ويساعدني رفيقي بقلة صبر واضحة ... فجأة شعرت بيد ثقيلة تهوي على رقبتي وتشدني من شعري .. وانهالت الصفعات .. ثم أتاني صوت أمير المبحوح من الغضب والدهشة " قوم منها يا .... قوم منها يا ود ال .... واصبحت ركلاته موجعة وأنا أحاول إخفاء وجهي بيدي .. وفي اللحظة التالية هب شريكي الغاضب من انقطاع متعته وبدا بضرب أخي وسادت الفوضى .. تعالت الصرخات وتكالب جميع الأصدقاء على ضرب هذا الغريب الذي تجرا وعكر صفو الجلسة .. كل بما طالته يده أو قدمه .. كنت انظر برعب للدماء التي بدأت تتفجر من رأسه ووجهه وكل مكان فيه .. وسمعته يهمس بكل قوة يمتلكها وهو يصارع لصد الضربات المؤلمة " دي أختي ... دي أختي ... دي أختي " وجم الجميع عند سماعهم لهمسه المصبوغ بالدم واتجهت النظرات اليّ وأنا أحاول لملمة ثيابي لتغطي جسدي شبه العاري ... وسألني شريك الشؤم " صحي دة أخوك ؟؟ " هززت رأسي إيجابا بعد أن التصقت حبالي الصوتية بسقف حلقي .. واتى سؤال من بعيد " يا جماعة الزول دة جا مع منو ؟؟ " فرد أحدهم وهو يشق الجمع كي يصل إلى الجسد المصبوغ باللون الأحمر .. وقد توقفت حركته " يا جماعة دة صاحبي وأنا عزمته ما كنت متخيل يلاقي اختو هنا "
رد آخر ببرود وسخرية " الزمن دة تتخيل أي شئ .. وشنو يعني اختو ؟؟! ما ديل كلهم اخوات ناس !! ولا شنو ؟؟!! ... الله يعكر دمه .. عكر علينا قعدتنا .. قوموا شيلوه وارموه قدام أي مستشفى احسن يموت هنا ونبقى في المشاكل "
كنت حريصة أن يجد آخي الرعاية الطبية اللازمة فألححت على شريكي الغاضب أخذه بسيارته ووضعناه أمام المستشفى وجلست بعيداً ارقب الأصوات المتحسرة والأيدي المساعدة وهي تنقله داخل المستشفى ..
دفتري الحبيب ربما تكون هذه آخر مرة نلتقي .. لا ادري ما قد يحدث إن تعافى أخي وفضح سري .. مشاعري ممزقة بين رغبتي في شفاؤه لاجل خاطر أمي التي لم تذق طعم النوم منذ ليلة أمس وبين خوفي على نفسي ..
لقد تطوع شريكي بعد إلحاح شديد مني للاتصال بهاتف الجيران وطلب أمي لإخبارها أن آخي تعرض لحادث سيارة نقل على أثره إلى المستشفى .. جرتني وراءها لزيارته .. وارتاحت خطواتي الخائفة عندما رايته ما زال غائباً عن الوعي .. كلمات الطبيب زرعت الطمأنينة في نفسي والنار في قلب أمي " والله يا حجة ولدك اتعرض لضربة قوية شديد ونزف دم كتير .. عنده ارتجاج حاد في المخ واربعة ضلوع مكسورة وفي عين اتضررت لغاية الآن ما قادرين نعرف وضعها بالضبط شنو ... لو بكرة حالته استقرت حيكون اتعدى مرحلة الخطر انتي بس ادعي ليه والله كريم قادر يشفيه "
ما زالت أمي تبكي وتدعو له بالشفاء .. وأنا ابكي ودعائي يتأرجح بين شفاؤه .. وطلب الستر بأي طريقة .. ولكن أليست الطريقة الوحيدة لضمان ستري ... هي موته ؟؟ ...
قصاصة سرية من دفتر يوميات فتاة متمردة
كيف يصبح الإنسان متمرداً على كل ما حوله ومن حوله ؟؟ هل التمرد صفة تولد معنا وتظل كامنة فينا حتى تأتى الظروف التي تفجرها ؟؟ أم هي صفة مكتسبة من بيئتنا التي نعيش فيها ونتعامل بها لرفض واقع نرفضه ونجبر عليه ؟؟
بدأ تمردي منذ سن السابعة .. ربما تندهشون لأنني كتبت السابعة وليس السابعة عشرة .. لكنها الحقيقة فعندما وصلت تلك السن كان الصراع الدائر بين أمي وأبي بشأني قد وصل مداه .. وكي لا أشوش تفكيركم سوف أقص عليكم خلفية الأطراف كلها حتى تكتمل الصورة في خيالكم ...
أبي السوداني الأصل يحمل الهوية الهولندية منذ عام 1986م بعد أن أتى طالباً اللجوء إلى بلد أمي قبلها بسنة .. أمي الهولندية بأصول فرنسية وألمانية كانت تعمل في مكتب شئون اللاجئين وكلفت بمتابعة ملفات السودانيين .. تدريجيا وقعت في غرام هذا الأفريقي الأسمر الذي يحمل نداء الغابة في عينيه وتحفز النمر في حركات جسده .. وغموض آسر في صوته وكأنه آت من عالم آخر يبدو بعيداً بالنسبة لهذه المخلوقة الشاحبة من شدة البياض مع شعر أشقر ذهبي وعينان بلون العشب الأخضر .. سحرها هذا البدائي العملاق .. وقبل أن تبت الحكومة في قبول أو رفض طلبه .. أعطته أمي حق اللجوء الى قلبها فمنحته الإقامة والجواز الهولندي ...
في بداية عام 1987م .. أتيت أنا إلى الوجود .. طفلة ساحرة تحمل لون كوب من الحليب أضيفت إليه قطرات من القهوة السوداء .. تجلت غرابة شكلي منذ اللحظة التي فتحت فيها عيني الكبيرتين لتشع وسط وجهي البرونزي ببريق يحمل لون السماء الصافية ففرحت به أمي لانه يذكرها بجدتها الألمانية .. كان هناك زغب بني ناعم تتخلله خصلات ذهبية يملا رأسي المستدير .. حملت اسم ياسمين .. فهو اسم عربي ويحبه الغرب .. سيكون مألوفا وسهل النطق .. نشأت في منزل ملئ بالحب والاستقرار .. وبعد وصول آخى الصغير عندما بلغت الثالثة من عمري بدأت بذرة الخلافات بين الزوجين المحبين .. أرادت أمي اسماً لا يجعل من أخي أضحوكة بين أقرانه ولا يعرضه لعنصرية الوسط الذي سيعيش فيه عندما يكبر .. أراد أبي اسماً يثبت به عروبته التي تخلى عنها بمحض إرادته .. واسلامه الذي تمسك به برغم محاولات أمي المستميتة لجعله ينساه ... استخدمت أمي سلاح الدموع والمقاطعة لفرض إرادتها .. وهما سلاح فعال للتأثير في قلب رجل محب .. فحمل آخي اسم مزدوج مايكل محمد .. وخلال فترة قصيرة كانت أمي قد طمست الاسم الثاني واصبح أخي مايكل فقط ...
كان أبى رجلا حنونا .. ذكياً .. مرحاً .. برغم كل شئ يحمل ولاء لا حدود له لوطنه الأول اعتاد أن يجلسني في ركبتيه كل مساء ويحكي لي قصصاً عن السودان وباللهجة السودانية الدارجية .. فنشأت وأنا اعرف الكثير عن بلد أبى .. أسماء جدي وجدتي .. أعمامي وعماتي أسماء أبناءهم ... كانت هذه الحكايات هي قصصي المفضلة لما قبل النوم كل ليلة .. وعندما أصبحت في الخامسة حفظت عن ظهر قلب خريطة السودان بأسماء المدن والأنهار .. وكنت ارسم الطريق بإصبعي الصغير إلى مدينة أبو حمد مسقط راس أبي ..
لم يكن هذا الأمر يروق لامي فحاولت منع أبي من غرس هذه المعلومات في رأسي .. لكنها لم تفلح لان الصغيرة المفتونة بابيها وقصصه كانت تطلب المزيد .. أتى رد فعل أمي مباشرا وصريحاً .. تركتني لابي وجعلت مايكل عالمها الخاص الذي لا ينافسها فيه أحد .. خصوصا وانه ورث عنها بياضها الشاحب .. شعرها الذهبي .. والعيون بلون العشب ... بمرور الوقت أضحى بيتنا معسكر مقسوم بحدود غير مرئية .. وقّع أبي وامي اتفاق ضمني بان لا يتعدى احدهما منطقة الآخر ..
ظلت امي ترفض بشدة محاولات ابي تلقيني تعاليم الدين الاسلامي .. كانت تطالب بان اعطى حق الاختيار لاتباع دينه او دينها عندا اصل السن التي تتيح لي المعرفة والاختيار .. اصر ابي على موقفه .. واصرت امي .. وبدات حرب معلنة بين الطرفين انحاز فيها مايكل تلقائيا لامي .. وكنت انا حزينة وخائفة ومرتبكة مما يحدث .. وصلت الخلافات ذروتها عند بلوغي الصف الثالث الابتدائي كنت حينها في السابعة .. ووقتها بدا تمردي ...
في ليلة ارتفع فيها صراخ ابي وعويل امي .. نزلت من غرفتي الى غرفتهما في الطابق الارضي .. فتحت الباب دون ان اقرعه وقفت بهدؤ اتطلع الى نظراتهما المندهشة من تصرفي .. واخبرتهما بقراري .. انا لن اتبع ديانة أي منهما .. لقد قررت ان اكون لادينية حتى يكفا عن الجدال بشاني .. واذ استمر ت حربهما سوف اخبر الاخصائية الاجتماعية في مدرستي عن عدم ارتياحي في منزلي .. كان تهديدي فعالا .. فهما يدركان معنى ان اخبر سلطة رسمية عن حربهما المتواصلة وقد يصل الامر الى اخذي منهما ووضعي تحت حماية الدولة .. بعدها كمم الخوف الافواه .. اختفت الخلافات .. واختفت معها ايضا الرابطة الحميمة التي كانت تجمعني بابي .. لكنه ما زال مصرا على اجراء أي حوار بيننا باللهجة السودانية التي رفضها مايكل بشدة .. كما رفض اسم محمد قبلها ..
في العاشرة من عمري كنت اجمل طفلة في المنطقة .. امتزاج جينات ابي وامي افرز خليطا مثيرا للانتباه .. وقتها عرفت معنى ان يكون لي صديق خاص ( بوي فريند ) اصبتكم بالدهشة مرة اخرى ؟؟ لا تندهشوا فهذا شئ متعارف عليه في بلدي لكنه كان نقطة خلاف جديدة بين ابي المعارض لنشوء علاقة مع الاولاد في هذه السن المبكرة حتى لو كانت برئية وامي المؤيدة للامر وترى انه تطور طبيعي في شخصيتي وخطوة ضرورية تمهد لانتقالي من مرحلة الطفولة الى مرحلة المراهقة .. وتمردت عليهما معا.. اتخذت صديقا تمردا على تحفظات ابي .. وكان عربيا مسلما تمردا على رغبات امي .. وجن جنونهما معا ولكن لاسباب مختلفة ...
اتسعت الهوة بين افراد عائلتي ..اصبح ما يربطنا فقط عنوان المنزل المشترك .. عندما وصلت الرابعة عشرة بدات امي تفكر بالطلاق .. اخبرت ابي برغبتها فرفض بشدة خوفا من فقداني انا تحديدا لان مايكل وقتها كان قد قطع شوطا طويلا في طريق الضياع .. في الحادية عشرة من عمره اصبح صبيا عصبيا وقحا وعنيفا ... حلق شعر راسه ووشم الصليب المعقوف على ذراعه .. كان يكره ابي بسبب لونه ودينه واصوله العرقية .. ويكره امي لانها تزوجت بابي .. ويكرهني لاني احمل ملامحهما معا ..
في السادسة عشرة رفعت امي دعوى طلاق امام المحكمة .. ورفعت انا عن نفسي عبء العذرية التي لازمتني طيلة حياتي السابقة .. منحتها عن طيب خاطر الى سامي صديقي العربي المسلم الهجين الذي كان يكبرني بعامين .. يومها عدت الى المنزل حيث العراك اليومي بين امي وابي ومايكل .. وقفت انظر اليهما فترة وهم يتبادلون السباب .. ابي باللغة الهولندية واحيانا بالعربية التي تفهمها امي وان كانت تنكر ذلك .. امي ترد عليه بخليط من الهولندية والالمانية .. بينما يصر مايكل على الالمانية التي لا يتقنها ابي .. وفي لحظة صمت نادرة اخبرتهم بانني قد فقدت عذريتي .. صرخت امي وسقطت على الارض لعلمها بعلاقتي مع العربي القذر كما كانت تدعوه .. كاد ابي يصاب بنوبة قلبية .. اما مايكل فقد بصق على الارض بين قدمي وهو يسبني بكلمات لو كتبتها هنا لتوقفتم عن قراءة بقية يومياتي ...
مر اسبوع هادئ على بيتنا وكأن اعلاني قد اصاب الجميع بالبكم .. كان ابي صامتا وتبدو عليه علامات التفكير العميق .. امي غاضبة وباكية .. مايكل ليس له اثر في المنزل .. الاسبوع الذي يليه كان غريبا .. بدا وكأن ابي يسعى الى ترميم علاقته المدمرة مع امي ويحاول ان يسترضيها .. كما بدا يكلمني بنضج وكانه اكتشف فجاة ان ابنته الصغيرة قد اصبحت امراة .. وفي جلسة نادرة جمعتنا نحن الثلاثة فجر اقتراحه القنبلة .. طلب من امي ان يفترقا بلا طلاق لفترة معينة يعيدا فيها تقييم علاقتهما .. ان كانت بعدها ما مصممة على الطلاق فسوف يمنحها حريتها بلا مشاكل ... كانت الغرابة تكمن في انه يرغب خلال هذه الفترة في العودة الى وطنه .. السودان .. وان يصطحبني معه فترة اجازتي الدراسية التي تبلغ خمسة وثلاثون يوماً ... لم تعجبني فكرة مغادرة موطني والذهاب الى بلد غريب والبقاء وسط غرباء طيلة هذه الفترة .. وترددت امي في قبول عرضه .. وهنا تجلى ذكاء ابي حيث ظل يلوح لها بجزرة الطلاق بالتراضي مما جعلها تلين من تصلبها وتوافق شريطة موافقتي انا على الذهاب معه .. وفي جلسة طويلة استغرقت ساعات ظل ابي يحفر ذاكرتي ويستخرج منها كل القصص الجميلة التي سمعتها عن بلده وانا صغيرة .. اعادني الى ايام احببتها .. الى الفترة الوحيدة التي شعرت فيها انني اعيش وسط عائلة طبيعية وليس في ساحة حرب .. ظل يغريني بالجو الجميل والشمس الساطعة مقارنة بجو هولندا الغائم القاتم .. حدثني عن جدتي التي تتمنى رؤيتي قبل موتها .. عن اعمامي وعماتي .. كانت كلماته الاخيرة المعول الذي هدم به آخر حصون مقاومتي
" ياسمين انا باحاول اصلح حياتنا عشان اسرتنا ترجع زي اول واحسن كمان .. محتاج مساعدتك ..لازم نخلي امك براها عشان تفكر بدون ضغوط .. وما شرط نقعد هناك اجازتك كلها .. صدقيني لو الوضع ما عجبك طوالي حنرجع "
انا من شعب يؤمن بالوعود .. يصدقها ويفي بها .. لذلك حزمت حقائبي وذهبت مع ابي الى بلده على امل ان تكون هذه اولى الخطوات في اصلاح حال عائلتنا التعيسة ..
في مطار الخرطوم المتهالك استقبلتني شمس مشرقة وحرارة لافحة فكانت علامة ترحيب جيدة .. اثناء دخولي الى الصالة احاطتني النظرات المعجبة المندهشة من ملامحي المتناقضة .. في هذه السن كانت الجينات الأفريقية قد لعبت دورها فاصبحت امتلك جسد امرأة ناضجة .. قامة طويلة وبشرة بلون البرونز .. شعر طويل متموج في حلقات لولبية تمازج فيه البني والذهبي بترتيب الهي بديع .. كانت عيناي السماويتان تتطلعان بفضول في الوجوه والمناظر .. صدمني شكل المطار فهو يفتقر للجمال والنظافة مقارنة مع مطار امستردام الفخم .. تمت الإجراءات بسهولة وخرجنا تتابعني النظرات والابتسامات والهمسات .. كان أبي صامتا بشكل يدعو للريبة ويبدو انه قد أجرى اتصالاته قبل وصولنا .. ما ان خرجنا حتى هرول الينا رجل في اواسط العمر يرتدي ما يشبه الزي الرسمي وحمل أمتعتنا الى سيارة لاندكروزر حديثة ..
كانت رحلة طويلة استغرقت نصف اليوم او اكثر لم تتوقف فيها السيارة إلا للتزود بالوقود او شراء الطعام والماء .. أحسست بالخوف والتعب والغربة وصمت أبى لم يساعدني في التغلب على أي منها .. شغلت نفسي باللعب في كمبيوتري المحمول الذي أصررت على إحضاره معي .. ففيه كل عناوين أصدقائي في هولندا .. صور أمي ومايكل .. مذكراتي .. أغاني المفضلة .. كل ما احتاجه موجود داخله ..
يبدو لي ان جو السيارة المكيف والهدوء الذي لا يقطعه الا صوت قرآن خافت جعلني أغفو .. استيقظت على يد تهزني برفق لاكتشف ان السيارة توقفت في منطقة سكنية تحيط بها الصحراء .. نزل ابي امام منزل متواضع غريب الشكل .. لك يكن الباب مغلقاً فدفعه ودخل وأنا اتبعه بخوف ... رأيت أمامي مساحة شاسعة أرضها تراب وفي نهايتها يوجد مبني وحيد غريب الطراز ..
بدا الاستقبال بصرخة أطلقتها امرأة خرجت من المبنى الصغير .. فتبعها آخرون .. وفجأة وجدنا أنفسنا وسط دائرة من البشر الذين يبكون ويضحكون في آن واحد .. وعلى أصواتهم المتنافرة تدافعت جموع اخرى من الباب المفتوح حتى امتلأت الساحة بطوفان من البشر .. كان ابي يتنقل من ذراع لآخر باكياً بصوت عال فيما بدا لي وكأنه كابوس لن ينتهي .. واخيرا تنبه البعض لوجودي فسالت اكبر النساء سناً " دي منو يا سعيد ؟؟ " كانت لهجة ابي مزيجا من الفخر والحزن " دي ياسمين بتي يا امي " وانطلقت الصرخات مرة أخرى واتى دوري في التنقل من حضن لاخر .. لم يتركوني الا بعد ان شارفت على الإغماء ...
ليلتها اختبرت اغرب تجربة في حياتي .. النوم في العراء وتحت السماء مباشرة .. ظللت مستيقظة فترة طويلة وأنا ارقب النجوم وهي تدنو مني وتبتعد عني حتى خيل الي في لحظات أنني أستطيع إمساكها بيدي .. كنت أدرك إنها خيالات عقلي المرهق لكنني أحببتها في اليوم التالي اختبرت تجربة أخرى لا تقل غرابة عن الأولى لكنها مفزعة .. تم ذبح عدد من الخراف بوحشية بالغة بدعوى الترحيب بنا .. عزفت عن الأكل لمدة يومين حتى تفهم أبي مشكلتي واصبحت الخضراوات طعامي الرسمي ...
كانت رؤيتي تثير دهشة كل من يراني .. ثم يتبعها الفرح عند سماع لهجتي السودانية الطلقة .. قابلت أعداد هائلة من البشر .. مر أسبوع من السلام الغريب عن طريق هز الذراع بقوة او الاحتضان بعنف وعانيت في نهايته من ألم حاد في ذراعي اليمين ... في الأسبوع الثاني لحضورنا اختفى كمبيوتري المحمول بصورة غامضة من الغرفة التي خصصت لي وحدي بعد أن رفضت بصورة قاطعة مشاركة أي كان خصوصيتي التي اعتدتها منذ طفولتي .. علل أبي الاختفاء بان لصا قد سطا على المنزل وسرقه اللابتوب مما أثار حيرتي .. لماذا يسرق لصا فقط كمبيوتري ويترك بقية أغراضي ومن بينها أشياء قيمة وغالية الثمن ؟؟ وعدني أبي بالبحث عنه فسكت على مضض .. لكن عندما اختفى جواز سفري وكل أوراقي الثبوتية من الدولاب أدركت ان هناك شيئا ما يحدث حولي .. شيئا غامضا يستهدفني .. فواجهت أبى بشكوكي ... ويا لها من مواجهة ...
" ياسمين .. انسي هولندا تماما .. انسي أمك ومايكل .. من هنا وجاي دي بلدك ودة بيتك وديل اهلك " احتدم النقاش وارتفع صوتي وانا ادعوه بالكاذب المحتال فما كان منه الا ان صفعني بقوة .. كانت هذه اول مرة يضربني فيها ابي .. لكنها لم تكن الاخيرة ...