التقوا صباح اليوم التالي في مركز انطلاق سيارات القلمون في الزبلطاني، ركبوا في الحافلة التي اختارت طريق دمشق حمص، عند خان العروس انحرفت يساراً في مفرق صاعد يستمر ارتفاعه حتى ألف وستمئة متر، مروا على أراض جرداء مقفرة متماوجة، تلال على الجانبين وسهول معظمها غير مزروعة، مراع بكر، وصلوا إلى هضبة تقف كالجدار، اخترقتها السيارة لتنفتح أمامهم شيئاً فشيئاً معالم الحياة، وما هي إلا دقيقة أو أكثر فإذا بهم في حضن بلدة قديمة، بلدة كأنها أنزلت بطائرة مروحية، انتشرت عند مدخلها وقربها بعض شجيرات العنب وكروم التين الهرمة التي تتقصف أغصانها، طرق ترابية على جانبي الشارع العام توصل إلى أراض مزروعة حديثاً ومنطقة مفتوحة تحدها المرتفعات، تتخللها ممرات ضيقة ومتعرجة بعضها مسقوفة، على جانبيها بيوت مبنية جدرانها من الحجارة، أما أسقفها المائلة فمن جذوع الأشجار المكسوة بطبقة من الطين المجبول بالقش، هذه «معلولا» التي وصلوها بعد ساعة من انطلاقهم، تبدو الطبيعة متناقضة، منفتحة ومغلقة في الوقت ذاته، إحساس بالوحشة والألفة، وكما ترافقهم الوحشة فإن أماكن جديدة تتوالد ترحب بهم، كهوف ومغاور وطبيعة متمردة حاولوا استنطاقها، وصلوا إلى الشق الذي على يمينهم، الأرض مشبعة بروح الله وقدسيته، تفتح صدرها وتباعد ما بين يديها، يمرون في الانهدام، يشمون رائحة بخور معتق، بخور من آلاف السنين، حيث امرأة كبحت أنوثتها وصنعت أسطورة، فكانت بطلة هذا الفج، الذي جعله الله سالكاً لنجاتها، مع الزمن تمدد ليصل إلى الهضبة، حيث الصخور التي تتلقى النسيم العليل وندى الصباح وعذوبته على مدار السنة، طبيعة منكسرة ترتفع تارة وتنبسط أخرى محتفظة بصخورها في أعلاها، هذه الصخور التي عايشت الناس منذ آلاف السنين، بدت أليفة لا خوف من تدحرجها، حتى ولا من زلزال، إلى يسارهم البلدة القديمة التي تتسلق الجبل بأزقتها وأبنيتها، وكأن كل بناء يهيء للذي يليه، ساروا داخل الشق الموصل إلى دير القديسة تقلا، ومن هناك امتطوا المناطق الزراعية والهضاب.
الطبيعة غافية، أيقظتها رائحة الأنوثة والأحاديث الطرية، صحا كل شيء، فإذا الرياح تغرد، العصافير طائرة تزقزق، تهرب لتعود ثانية في حركة رياضية، الطبيعة مليئة بالتطريز كثوب أم حامد، توجهوا عبر المناطق الزراعية والأراضي الوعرة، حيث أوصلهم المسير إلى دير مارسركيس ذي البوابة المستطيلة المصفحة بما لا يقل عن مئة مسمار ذي طبعة مربعة.
طافوا في شوارع معلولا وأزقتها، ما بين ترحيب الأهالي وابتساماتهم ومرح الطبيعة، شعروا أنهم في حضرة التاريخ، في حضرة أجدادهم، خاصة وهم يرون الأزياء القديمة. يتحدث الأهالي بلغة غير مفهومة لهم، إلا أنها غير غريبة على أسماعهم، سألوا عنها، فعرفوا أنهم يتحدثون السريانية بطلاقة، بعد الظهر توجهوا إلى مطعم صغير يقع في واجهة البلدة، فيه عدد من الطاولات وعاملان، أحدهما يلبي طلبات أربعة سياح، على الجدران ثلاث لوحات، الأولى للسيدة العذراء، ولوحة تمثل صلب السيد المسيح والثالثة منظر عام للبلدة، بجانبها ترخيص صحي، خلف الزجاج سحب متفرقة تغزو السماء، وشمس خففت كثيراً من وهج حرارتها، شدتهم التغيّرات الجوية، تحدثوا عن الخريف وتقلباته، جاءهم النادل بقائمة المأكولات، طلبوا وجبة غداء، بدوا فرحين يتبادلون المزاح وهم في فرح عارم، تناول حامد قطعة لحم وقدمها إلى فرات، نظرت إليه تستهجن ما يقوم به، احمرّ وجهها وقالت: أنا أتناول بيدي!
- خذي أيتها الجميلة!
ابتسمت هلا وطلبت إلى صديقتها أن تعامل حامداً بالمثل، وتقدم لـه الطعام بيدها، بخجل تناولت قطعة لحم وقدمتها، تناولها وحاول قضم أصابعها بحركة متعمدة وهو يحدق بعينيها، نظرت إليه وقالت: آخ يا متوحش!
تأمل فرات سماع المزيد من تعليقاته، إلا أنه صمت، عيناه تفيضان بالتساؤل تائهتان فيهما قلق ورغبة في إبداع الحياة من جديد. غادروا المطعم وحامد وسطهما، أسرعت إلى الفج مهرولة أمام فرات وحامد: "إلى أين؟"
ابتعدت عنهما، تجاهلت السؤال وصار من الصعب اللحاق بك، علقت فرات: "آه يا ملعونة!"
على بعد أمتار من بداية الشق جلس يحدق إلى وجه فرات، من بعيد صوت فيروز «بكتب اسمك...» حفر اسمه واسمها بخط أنيق وإلى جانبهما رسمت قلبين متعانقين، وضع يده فوق كفها بعد أن أكملت الرسم، كل شيء فيها متفتح وناهض ورشيق، بدا الخريف ربيعاً، نظر إلى بؤبؤ عينيها، الربيع في عينيها وابتسامتها، كل الفصول في فوضى وارتباك.
نظرت إليه وبدأت تحدثه عن الأيام التي تنتظرهما. تقف دموعها في مقلتيها. شيء ما يفتت أعصابه، يشعل النيران في دمه. عيناها سحابة تغسل القلب وتنقيه. احتضنت النسيمات بعض القطرات المنحدرة على خديها. الشمس تقبل الجداول برفق، فتبدو ألوان الطيف متراقصة: "هل للغيوم مخاض آخر بعيداً عن عينيك؟ أرثي سماء تستجر مطرها، تعاني المحل على الرغم من اتساع البحار."
سارا صامتين، في أعماقهما يشتعل الحلم. خيالها النشيط يجعلها تهيم في عالمه. يولد صوراً رائعة ونشوة تسكن جسدها. تحس بالدفء، بالمرح يتغلغل في كيانها، وتنساب تاركة إياه في حالة ارتباك. الأرض غنية معطاءة، خصبة كالحلم، كالخيال، كجسدها الرشيق الذي يفيض أنوثة. السماء تغازل اليابسة بالنتف الرمادية التي تفقد شكلها وذاتها لحظة وصول الشمس إلى منتصف القبة، لتنشر نورها وتبدد ما تبقى من غمام. لِمَ لا تهرب فرات ما دامت أمها ترفض خطيبها؟ هيهات أن تتوحد والأميرة تقلا على الرغم من أنهما من نبع الجمال ذاته. عقليتهما وتفكيرهما مختلفان! طلب إليها أن تتوقف، فهما ليسا في سباق الضاحية، لن تنال أية جائزة، حتى ولو ابتعدت عنه ميلين، ستظل مشدودة إليه، ثمة خيط يربط قلبيهما:
- قفي أيتها اليمامة، دعينا نرتب حياتنا كما يحلو لنا، لقد ذهبت الأيام الموجعة، وفردت الشمس نورها على الدنيا، لا تحاولي إغماض عينيك. الكواكب ترقص والشمس تغني، لونت أشعتها ابتسامتك بندى الربيع وقوسها الرائع، تنظرين إلي وتبتسمين، ألسنا قادرين على جعل الحياة جميلة دائماً؟
- لا تعدني إلى الواقع، دعني أسبح في المجرة، دعني طفلة تلهو، أعيش الحلم والخيال!
- لا تهربي يا عصارة الورد، ضعي يدك في كفي، لنخلق ابتسامتنا التي لا تستطيع كل نكبات العالم أن تمحوها، ألا تحسين برقص الطبيعة، بمذاق الفرح وتشكله في ذاتنا؟
حركت كلماته داخلها. الماضي في عينيها غيمة عاقر وغير قادرة على فرد أجنحتها، وتحويل القطرات المنسكبة إلى مطر وخصب. تحفر في الذات مجراها، تتوضع في داخلها الألوان القاتمة، تظهر على تقاطيع وجهها الباكي، تقاطيع تسبح في عالم الحزن والقهر، فتبدو عصية على المرح. الحياة تطعن الطيبين. يهزل الحق. الصراخ والعويل لا يهدم الجدران السميكة. تهرب النجود والسهول، شيء ما يفتت صدرها الفتي ويلتهم فؤادها، تحزن حين تتذكر أبا سبحة صاحب الوجه الجميل الذي ترك بصمته على حياتها. منذ خطوبتها غيرت الكثير من عاداتها، تخلت عن سفورها، اقتنعت بالمنديل تدليلاً على حسن نيتها، غطت ثلاثة أرباع شعرها، تركت الخصلات الأمامية تغازل جبينها ونهاياته تتكئ على كتفيها، وهي كأية فتاة شرقية إذا اعتادت على شيء يصير جزءاً مكملاً لشخصيتها، لا تستطيع التخلي عنه بسهولة، فكيف إذا كانت تميل إلى ترويض ذاتها على الأسوأ وقبول الواقع بعجزه؟ الأزمات لا تزيدها إلا رضوخاً و إذلالاً. قوانين المجتمع وأعراف الناس تفرض عليها أن تعيش مقهورة، وترضى بالقسمة والنصيب، وألا تقول أف!
تتلاعب النسائم بقميصها، تعانق محياها. تفتح ذراعيها وتطير عبر دروب العشق، تتدفق الكلمات إلى فمها وقبل أن تنطق يناديها. يطلب إليها الوقوف. يتأمل وجهها وصدرها وباقي تقاطيع جسدها. يجفف عرقها. الدم يتدفق إلى وجهها، يتورد كفتاة صفق لها زملاؤها. تحني رأسها. أناس يمرون من هناك، تمشي. قوام بديع متناسق كما لو أنها ذاهبة لتأدية حركات بهلوانية. يتراجع قليلاً ليأخذ لها صورة. عيناه تدققان في مباهج جسدها، صدرها وساقيها وردفيها. تحتضن الكلام الجميل. غزل يجعل هامتها تكتشف المزن، تكتشف أنها أجمل مما تتصور، تكتشف لحنها الرائع، تتوحد مع الجمال، النسمة تصير ألطف وأنعم على صدرها. ذبَّلت عينيها. أنثى معجونة بالحياء، خداها تفاح عرنة التي تتسلق جبل الشيخ. في روحها إصرار على أنها أميرة الجرود. غادرت الغيوم وبدت النجوم لامعة في عينيها، قال:
- أحسست أن النسيمات التي انطلقت، قد حملت معها أروع رسم تتباهى به، وسيرى القادمون بعد عام وفي مثل هذا اليوم تمثالك، تمثالاً من هواء!
- أنت اليوم شاعر! ذهب خيالك بعيداً، لماذا لا تقول إن النسيمات قد حفظت كلامنا وستعيده وسيسمعه القادمون إلى هنا بعد عام!
- رائعة، سبقتني إلى هذا التصور، عندما تهب نسيمات عليلة حنونة، ستسمعين غزلاً تعيده ذرات النسيم، وترين صورتك لثوان حيث وقفنا!
شعرتما أن الرياح احتفظت بهذه اللقطة التي لن تتركها أو تتخلى عنها:
- مجنون يا حامد!
- من يقترب منك ولا يصاب بلوثة ليس إنساناً!
اقترب منها، احتوى خصرها بيده، جذبها إليه وقرب شفتيه من فمها، ابتعدت عنه محذرة أن يراهما أحد.
النسمات تجعلهما أكثر انتعاشاً وحيوية. ابتعدا أكثر عن عيون الناس. أمواج البهجة لم تتركهما، سارت معهما طوال الوقت. فرات ذات مزاج غير مستقر، تقسو عليه، تهرب من أسئلته، من نظراته، صارحها بحبه ونظرته للمستقبل، ردت بنظرة متشائمة، مهرة غير قابلة للترويض، قعدا على الصخور كقديسين، تململت في جلستها، ابنة مدينة تخاف الأماكن المقفرة، فرت من بين يديه، لحق بها، غطى عطرها ووجودها المكان، فصار للمكان والزمان طعم آخر، تنتعل خفاً من المطاط يساعدها على الرشاقة. تركض أمامه. تبددت ظنونه ولم يقطف ولو قبلة. حافظت على فاصل بينهما، سعيدة بحركاتها، بالنزهة. تصغي لحامد حين يطالبها أن تفتح قلبها أن تقول كل ما عندها، أن تكون جريئة تفرض رأيها، تجابهه والدمعة على رمشها. تشكو التربية التي تجعلها عجينة في يد أمها، لا تستطيع أن تقول شيئاً، حاصرها بأسئلته، بعجزها عن الفعل، بالذريعة التي تحتج بها، قالت: "دعني أحلم، ابعدني عن الواقع، أنا حائرة، أأسافر أم أبقى؟ لن أخفي عليك أنني تلقيت رسالة قصيرة من أخي."
«العزيزة فرات:
كلما مرّ الزمن أشتاق إليك، أنت وشقيقتي ووالدتي، أنتن كل ما تبقى لي من هذه الدنيا، تأثرت كثيراً للتجربة التي مررت بها، ألم يكن من الممكن تجاوزها؟ سامح الله ماما، الآن أستطيع أن أدعوك لزيارتي والإقامة معي، يمكنك أن تتابعي دراستك هنا في أية جامعة، والعيش دون تعقيد، هنا كل شيء متوفر، لا أزمة على المواد التموينية، ولا أزمة في التعامل، لن تعاني من الأزمات التي حدثتني عنها... أنا بانتظار رسالة منك لأبدأ بالتحضير لإجراءات سفرك كالتأشيرة وغيرها».
بقية الرسالة لا تهمك، هل عرفت الآن ما أنا فيه، أنا بين نارين، بين خيارين، أيهما أختار؟
- ألم تحسبي حسابي؟
- أنت ألمي وفرحي، أنت من يدفعني للتردد، وإلا لكنت أبلغته بقرار السفر!
جاءت هلا وانضمت إليهما عند الصعود إلى السيارة والعودة إلى دمشق.
-27-
قررت أن تعلقي صورة والدك مقابل سريرك، هذه الصورة التي رسمتها بريشتك عزيزة عليك، ستشاورينه في كل أمر، سيهبك قوة تواجهين بها الحياة، من الطبيعي أن تستمري بزيارة قبره وتحدثيه كلما ضاقت الأيام في وجهك، وتظلي إلى جانبه ساعات تطلبين رأيه السديد.
حرمت نفسك من الخربشات الرائعة التي تصنع لوحة، هل تعودين إلى الرسم وتشعلين البراكين التي خمدت؟ أمك تقف في طريقك، هل تتجاوزين آراءها وترسمين المكان الذي تحلمين فيه وزمانه؟ الغيوم المسافرة والأفق الذي يعطي أفكارك رحابة؟ تدهمك رائحة المجاري وعفن الأراضي التي ترتوي بها، تغلقين النوافذ، تسدين أنفك وتمضين:
- الأنف يا فرات يشم عبق الغوطة وورودها، لا تدعي الروائح الواخزة تميت كل جميل فيك!
- أنت تشعرني بالحياة يا حامد، لولاك لدفنت جسدي وروحي.
- أنت شجرة تورق وتثمر من جديد.
- بل أنا شجرة جردها الخريف من عناصر الاستمرار.
من يوم أعتم النهار، أخرجت كل الأحلام من صدرك، ارتحل عنفوان احتضنه جسدك، سافر ذاك البريق المشع من عينيك، وتبخرت أنوثتك حتى غدوت فتاة تتسول شخصيتها. تكره النظر في المرآة حتى لا تذكرها بجمالها الضائع. صرت كالمياه الراكدة. شعرت بثقل الماضي. تخلصت في البداية من ذاكرته، من هلوساتك، من طبقة العفونة، من تجاعيد الزمن والمعطف المهترئ، تتمزق الوجوه التي ترتدينها، ترتدين ثياباً جديدة ووجهاً جديداً، شعرت بأحاسيس وقلق، أيكون الحب الذي تحرك داخلك؟ تحملين روحك على راحتيك، تحاكين الطبيعة، تغازلين الزرقة وتتماوجين مع الخضرة، تهيمين كالفراشة التي لا تقدر على التفريق بين السماء والماء، تتبدل التعابير في عينيك، تكشف تعبيرات وجهك عن داخل قلق وأيام مجهولة، وهذا لم يمنعك أن ترسمي لوحة جميلة مناقضة للمستنقعات، لوحة لمدينة، لشوارع عريضة، لواحة. خيوط فضية فتحت كوى. عواطف تداعب شرايينك. تبحثين عن أبجديتك. ذاكرتك تسبح. فؤادك يمنعك من النوم. يقظة تبحرين في عوالم سريالية. تتركين الرياح والأوهام تستنزفك من الداخل. صحوت على صوت عواء. استنهضت ذاتك وبقايا عنفوانك، ونظرة الآخرين إليك. تحملين شهادة الدراسة الثانوية. أنت معدة للفراش والمطبخ حسب تفصيل الثقافة المطلوبة من أية أنثى ستتزوج. هل هذه هي الثقافة التي حلمت وتحلمين بها طوال عمرك؟ اعتقدت في بداية حياتك أن معادلة الثقافة والجسد لا يجتمعان ولا يتفقان. الاختيار صعب، إذ يظل نداء الجسد هو الصوت الذي لا يعلو عليه أي صوت آخر. الآن تدركين أن بينك وبين الكتاب مسافة من الصعب تجاوزها، عليك أن تنهلي من ينابيع الثقافة في ظل أحد الخيارين اللذين طرحتيهما كبديل لهزيمتك، السفر إلى الخارج للدراسة أو الخطوبة من حامد الذي هاجم حياتك وأخذ نصيبه من الانتباه والاهتمام. وانتصاراً لخيار والدك الذي كانت أمنيته أن يراك كبيرة، تزينين دمشق بعلمك وفنك، تكبر بك وترفع رأسها، تفضلين إتمام دراستك.
عالم الأنثى يحيرك، أنت في الغوطة أنثى عليها واجبات أما الحقوق ففي عالم الغيب. تاه خيالك في هذا العالم، في الأم التي تضطهد ابنتها. حفظت تقسيمها لبنات جنسها، فالنساء حسب رأيها ثلاث، واحدة تعشق لتتزوج، تقيس خطواتها وتصرفاتها وكل كلمة تتفوه بها، كلما لانت تتذكر أنها ستكون زوجة، فتكبح جماحها وتعود إلى طبيعتها، أما إذا فقدت الأمل، فإنها تدوس على قلبها وتقطع علاقاتها غير آسفة على شخص لا يقدر عظمتها، تبحث عن غيره مسلحة بتجربة لتكون أكثر دهاء فارضة سلوكها على سير العلاقة، أما الثانية فتعشق لترضي غرورها. تمشي مع عشيقها وتلاطفه طالما هو في نظرها الأفضل، مزاجية الأهواء، معطاءة وقليلة الشكوى لا تعرف الحزن، جسدها فاكهة وأغنية، الحياة معها قصيرة، هي في بحث دائم عن الأفضل. وثالثة للذتها، جسدها شارع إشارته خضراء في أي وقت وتحت أي ظرف، تفجر ينابيع المتعة، فضاؤها خصب وثغرها مبتسم.
طمح والدك ألا تكوني من أي منهن، أن تكوني خارج التصنيف، متمردة وفنانة كبيرة، تقولي بلوحاتك ما لا يستطيع قوله أعتى الرجال. تقفين أمام صورتك تسألين، من أي النساء أنت، عليك أن تقرري بمحض إرادتك من تكونين. تفرضين ذاتك، تتوقين ألا تكوني من الثلاث، وأن تكون في المستقبل تصنيفات أخرى للمرأة.
تتحصنين بماضيك، تستنجدين بأسرتك العريقة، تحلمين بإعادة بناء المجد الذي تلاشى بوفاة والدك، وقد يطغى هذا الحلم على ما عداه، إذ كلما حققت معادلة ذاتك، تتوقين إلى ذاك العالم الذي تتفوقين فيه على العائلات المثيلة لك، تسألين عن تدني مكانة أسرتك الاجتماعية، تحارين في أسباب ذلك، أهو الرحيل إلى الغوطة أم المال أم العلم؟ جادة في إعادة ما سلب، لن تتهاوني ولن تستسلمي للزمن. يمامة تعشق الفضاء والنور يصعب صيدك، تفرين لدى رؤيتك للصّياد، وأحياناً يدفعك خيالك للتحليق، يعيدك الواقع إلى مرارته، تبحثين عن الزوج حتى كدت أن تغطسي في مستنقعه، من يومها قررت أن لا تظلي صحراء، زرعت النخل وأغلقت الدروب المؤدية إلى قلبك، تنتظرين الثمار وأنت تعلمين أن النخل لا يعطي في أعوام قليلة. لم تسمحي لأحد بتسلق نخلاتك، شباب اليوم يخدشون كبرياء المرأة حتى لو مرت من أمامهم، فكيف إذا أقامت علاقة مع أحدهم؟ لكنك التقيت بمن لا يخدش ثمارك وكبرياءك، يحترمك و يعاملك كقديسة، لم تتوقعي أن رجلاً مثل هذا موجود حتى في الأحلام.
حامد نسف مقولاتك، أعاد لك إنسانيتك واعتبارك. كنت ضد إقامة أية علاقة، لكن الأمور اختلفت عندما اصطدمت بالواقع، شعرت أن الغشاوة التي تلفك تزول، وأن ما يحدث معك، يخرج على نطاق الذات وسيطرتها. عدت إلى بيتك، أحسست أن يومك مختلف، كل شيء بدأ يتغير، ماذا تريدين منه وماذا يريد؟ تطلعت إليه وابتسمت فبان الشعاع والألق اللذان عادا إلى عينيك.
في الصف لم تستطيعي أن تعطي تلميذاتك أي درس في ذاك اليوم، كتبت التاريخ على السبورة، وطلبت إلى العريفة أن تسمع الدروس. في الحصتين الثالثة والرابعة كتبنه، وفي الحصة الأخيرة رسمن الورود. تضعين يدك على خدك وتسرحين، تسألين نفسك، كيف قبلت الورد؟ أأنت مهيأة لعلاقة غرام أو خطوبة؟ لقد حدث ذلك دون إرادة وتفكير، امتدت يدك وتناولت الوردات، ثم بدأ سيل من الأسئلة، ما نهاية مثل هكذا علاقة؟ أتحدثين أمك وأختك أم تتركين كل شيء دون تخطيط؟ أيعقل أن تنسجي علاقة دون تفكير، وأنت ابنة مدينة تحسب لكل شيء حسابه؟ سألت بطريقتك عنه وعن أهله، عرفت الكثير، المؤلم أنه ليس شامياً، وأن الاقتران به لن يشكل رفعة لعائلتك، تناسيت ذلك وبدأت تتهيَّئين للأيام القادمة، لتنامي الإعجاب الذي قد يجر إلى الخطوبة والزواج. فكرك يكاد ينفجر، لن تحملي عناء الإجابة، ستتركين ذلك للزمن. هل تورطتِ حين ذهبت معه مشاوير؟ لو لم تقتنعي أنه الشخص المناسب لكنت رفضت وروده، لكنه مع ذلك لم يأتك على ظهر حصان أبلق، جاءت عائلته مهرولة من الجليل، وهذا لا يناسب أمك وأنت لن تتزوجي دون موافقتها، وإذا لم تقل مبروك بالرفاء والبنين، ستظلين تراوحين في مكانك، شعرت أن معرفتك به هي بداية سلسلة من الآلام والأحزان، لا تعرفين متى ولا كيف تنتهي.
-28-
الغمام يتبرج، يبحث عن سماء لا بروق فيها ولا رعود، يهرب دون وعي، يضل الاتجاه ويتبدد في المجهول، يحسُّ بالضياع ويستعذب الفوضى والبكاء، إلا أنه بهذا التصرف لا يزرع الفرح، بل يبقي الحزن في الصدور، فبدل أن تبدو الغيوم وهاجة مضيئة فضية معطاءة، تبدو أشبه بقافلة من الغجر. يحزن القمر للعجاج الذي ملأ رئتيه، يغطي وجهه بكفيه، يحاول أن يبتعد عن الدخان، يحاول أن يفلت من الجاذبية.
في هذا الجو الملبد حلمت فرات وهلا بحياة هانئة، مع من يستطيع انتزاع الأشواك من قلبيهما، ويعيدهما للمرح الذي هجرتاه. حلمتا بالحب، بصدر واسع يتسع لماضيهما، يغفر الهفوات، وكما يسكن الفرح في الصدور ولا يخرج، فقد أسكنت فرات حامداً في فؤادها، كالمزن التي احتضنت غناءها، آملة أن تتخلص من السواد. ظهوره مثّل بداية مرحلة جديدة في حياتها، ضخ فيها دماء جديدة، أفكاراً جديدة، خلصتها من عثرات الدروب، رش العطر في طريقها، عادت إليها حياتها وثقتها وتفاؤلها. فاجأتها هلا بنزيف فؤادها، وهروبها، وخوفها من الناس، من مجهول لا تعرفه، كلّ ما تريده أن يكف الجاني عن البحث عن ضحيته، تقبلت ما حل بها واعتبرته درساً.
قررت أن تتجاوز آلامها، تعيد الثقة لروحها، لا طريق إلا هذا النهج، ما حصل أكبر من أن تتصوره أو تتقبله، لماذا لم يحصل إلا معها؟ لم تسلك يوماً الدروب الوعرة، حلمت بالتخرج لتتقدم لمسابقة انتقاء المدرسين، تُدرس مادة اختصاصها ويتحسن وضعها المادي، إن بقاءها مدرسة للصف الثالث حجر دماغها، لم تعد قادرة على تطوير أساليب التدريس، بحاجة إلى دورة إنعاشية، ومع ذلك كانت الحياة رائعة، الشمس تشرق كل يوم، ومع شروقها يبدأ العمل، تجاهد لتصل إلى عملها دون متاعب، وجوه زميلاتها كالورود والفراشات، كلهن في سن العشرينات أو بداية الثلاثينات باستثناء المديرة التي تجاوزت الأربعين. تدخل إلى الصف تشعر بالأمومة، بالصغيرات وهن يبتسمن ويقدمن الياسمين، تبدأ يومها بابتسامة، أيامها عادية. الآن تدرك كم كانت رائعة تلك الصباحات والأمسيات! وكم للمرح والمزاح روح شفافة! تضحك فإذا قهقهاتها تتسلل إلى الباحة، إلى آذان التلميذات اللواتي يسألنها بكل وداعة وطفولة عن سر ضحكتها، تبتسم ولا تجيب، تسأل نفسها إن كانت قادرة على ابتسامة واحدة من قلبها؟ تشتهي أن تلبس ما يجعلها محط أنظار الآخرين، وعندما ينحسر فستانها عن فخذين رائعتين كحدائق بابل المعلقة، تدعه على حريته، ولا تخجل من العيون التي تلتهم الجمال. تحب المديح كالصغار. تهرب إلى ذاكرة الطفولة المعذبة يوم كانت تلميذة في المرحلة الابتدائية، تسألها الآنسة عن عدم اشتراكها في الرحلات المدرسية، تستدرجها للحديث، يجرها ذلك للسؤال عن والديها، وعن سكنها الحالي، يتجمد الدمع في عيني المدرّسة وفي عيون التلميذات، تتأكد مما قالته تلميذتها عن فاجعتها بمقتل أمها وإخوتها في الجولان. تتعاطف معها، تشجعها، وتتبرع لها بمئة ليرة في كل شهر، صارت شغلها الشاغل، في الرحلات تأخذها وتتكفل بمصروفها، تأكل مع الآنسات، تلتهم اللحم المشوي اللذيذ وهي خجولة، متفردة في حزنها وفي أفراحها.
الآن تأكدت أنها تهرب إلى الفرح الذي غادرها، حملته كما تحمل دفترها، عافت جسدها الذي حلمت بنضوجه، ودت لو يشيخ، أن تعود إلى صحرائها، إلى الرمال والعجاج، أن تلبس ثياب التصوف. علقت حزنها على وجهها، على باب قلبها، تشتهي الأقمار والشموس، تركض إلى الحلم الذي يعاندها ويبتعد، تهرول خلفه ولو كان بعيد المنال، تشتهي أن تأتيها الأيام طائعة، تعتذر عن كل آلامها، أخوها حسن الوحيد الباقي من أسرتها بعد وفاة والدها، يثق بها ولا يسألها عن شيء تفعله، تطلب إذنه في بعض الأمور، خلصها من الإحراج بقولـه: "هلا أنت فتاة متعلمة ومثقفة، صبرت معي على مرّ الحياة واليتم، أنت ما تبقى لي، كيف لا أحبك وأهبك ما تستحقين؟ كيف لا أثق بك؟!"
سنوات مرت وتزوج حسن، خيّرها أن تسكن معه في مدينة دمشق، أو مع عمه في «كوكب» الملاصقة لبلدة عرطوز، تلك التلة التي اختارها لارتفاعها لتستقبل النسمات الآتية من الجولان.
قررتْ أن تحمل آلامها بعيداً عن أخيها وأقاربها، وأن تتسلح بعزيمة فولاذية لتتجاوز الحاضر، مقاومتها تدفعها للتحدي، أن تبتعد عن هواجسها وضعفها، تعيد شحن ذاتها، مستعدة أن تهدم الكون وتلهب قلبها وقلوب الآخرين، أدركت أنها على شفا هاوية، وعلى قرارها يتحدد مستقبلها، أهي قادرة على التحدي أم تظل رهينة قفصها الصدري؟ ذهنها يعج بالتساؤلات، غير قادرة على تركيز أفكارها، ما يحزنها أنها مثقفة وغلطتها بمليون، تذكرت حيويتها، حياتها، صداقاتها، ما كانت تقوله لرفاقها. التغييرات التي حدثت جعلتها خرساء، لا تتحدث لا في السياسة ولا في الاقتصاد، ولا تبدي وجهة نظرها التي تستمدها من النظرية المادية، ترى أن ما حدث هو انعكاس للواقع والحياة الهامشية والوضع المعيش، الآن تدرك أنها تعيش وضعاً مأساوياً، يريدون أن يجردوها من آخر قوة تملكها.
هلا عينان ذابلتان، دموع شفافة، وجه شمعي وحزن بحجم الدم الذي يجري في عروقها. البراعم شربت من بقايا دموعها، ومن بقايا الدم الذي تضخه في أوردتها وشرايينها. أورق الدمع حنظلاً، عليها أن تصمت إن كانت تود لحياتها الاستمرار. التنهيدات تلال من القهر، دموع حمراء تفيض على الكبد، أوجاع في الدماغ، وفم لا يأكل ولا يتكلم، هل هناك ألم أكثر من ذلك؟
القمر الشاحب يغطي وجهه، يهرب بعيداً غير قادر على سماع تفاصيل مأساتها. الينابيع التي تدفعها الجبال لا تعرف لِمَ زيادة كمية المياه المتدفقة؟ الفرح في العيون تمحوه الفيضانات. تفقد عيناها تدرج الألوان في لحظة جنون الذاكرة، لا ترى إلا لوناً واحداً. الجنون عنوان عريض يتلبس حياتها، لا سبيل إلا الوحدة ما دام نبع الحياة لا يجدد مياهه. أمامها كومة أحداث وتجارب، عليها أن تلتفت إلى الواقع ما دامت الحياة مستمرة على الرغم مما حصل، لن تستسلم، على ماذا تخاف؟ لا شيء تخسره بعد خسارتها، ستظل تحاول أن تخرج من النفق الذي حشرت تفكيرها فيه، أبعدت الهواجس، أمامها أعمال ستنجزها، قد تفعل ما لم تفعله منذ زمن، مقتنعة أن الشمس ستنفض عنها الأتربة، وستهديها الأمطار أحلى الأطياف، وتزين جيدها الأنوار. لم تنتبه إلى شاب يباريها كطفل يلحق بأمه، كان هذا مصطفى طالب الحقوق الذي لم يتخرج، ما يزال في السنة الأخيرة، ينتمي إلى أسرة الحفا العريقة بتدينها وخدماتها المجانية. جدهم منذ زمن الأمويين يمشي حافياً، طوال يومه ينظف سجاد الجامع الأموي ومفروشاته، هذا الجامع الكائن في نهاية سوق الحميدية، لم يره أحد من معارفه ينتعل حذاء طوال سنوات حياته التي قضاها أميناً للنظافة، لا يعود إلى بيته إلا ليلاً ويغادره قبيل صلاة الصبح، عائلته تفخر بعملها وبنسبها الذي يتصل بقبيلة قريش، والذي أهلّها لمثل هذا الشرف، لديها شجرة نسب تثبت ذلك، الجد الخادم للجامع لا يتقاضى عن ذلك أي أجر، بل ينفق من أمواله على الجامع، لديه بساتين في منطقة المزرعة ومعصرة زيتون، من إيرادهما يصرف وما يفيض عن حاجته يهبه لبعض العائلات المستورة.
الحفا شاب فيه شيء من خجل أجداده، راقب هلا دون أن تشعر، لم تلتفت أو تكلم أحداً، ماذا تريد من الشباب؟ لا شيء وراءهم سوى الشر، مصطفى أعجب بجمال جسدها وروحها وكبريائها، يصر على التحرش، وهي تصر على تجاهله، وهذا ما جعله يفور ويغلي، مستعد أن يخرب العالم مقابل أن يسمع كلمة. اعتنى بأناقته وهندامه، لم تنتبه ولا تعلم إن كان يطاردها أم رؤيته من قبيل المصادفة. الحياة علمتها أن لا تأمن لأحد، طوال المدة الماضية التزمت في ذهابها من بيتها إلى المدرسة وبالعكس توقيتاً لا تحيد عنه، قال بينه وبين ذاته إنها الفتاة المطلوبة، كبرياء يصل إلى السماء وأنوثة ورقة قلّ نظيرهما.
ذات صباح تحرش بها. وقع دفتر تحضيرها، تناوله وناداها باسمها طالباً إليها أن تتوقف. التفتت بانزعاج وقالت: